إن الإعلان عن أي صفقة ضخمة لشركة أرامكو السعودية، عملاق الطاقة العالمي، هو حدث لا يقتصر تأثيره على سوق الطاقة فحسب، بل يمتد إلى الأسواق المالية العالمية والتحولات الاقتصادية الكبرى، خاصة في سياق "رؤية السعودية 2030" التي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل. الصفقة الأحدث التي هزت الأسواق هي اتفاقية تتعلق بمشروع الغاز العملاق في المملكة العربية السعودية، عُرفت في التغطية الإعلامية بـ "صفقة الـ 11 مليار دولار".
هذا المقال الشامل سيتناول تفاصيل هذه الصفقة الضخمة، وهيكلها التمويلي المعقد، والغرض الاستراتيجي من ورائها، بالإضافة إلى تحليل الاتجاهات الأوسع لـ "أرامكو" في قطاع الاستحواذات، والتي تتراوح بين تعزيز قطاع التكرير والكيميائيات وصولاً إلى التحول نحو مصادر الطاقة الجديدة.
أرامكو وتطوير الغاز: صفقة الـ 11 مليار دولار.. إعادة هيكلة لتمويل المستقبل
أعلنت شركة الزيت العربية السعودية (أرامكو السعودية) عن صفقة مالية ضخمة بلغت قيمتها 11 مليار دولار أمريكي، وذلك في إطار أعمال تطوير مشروعها العملاق للغاز غير المصاحب في حقل الجافورة. لم تكن هذه الصفقة "استحواذاً" بالمعنى التقليدي لامتلاك شركة بالكامل، بل كانت عبارة عن نموذج تمويلي مبتكر يهدف إلى جذب الاستثمار الأجنبي المباشر وتحرير رأس مال "أرامكو" لاستخدامه في استثمارات أخرى ذات أولوية.
I. تفاصيل الصفقة المعلنة: استئجار وإعادة تأجير مرافق الغاز
تُعدّ صفقة الجافورة بقيمة 11 مليار دولار واحدة من أكبر صفقات البنية التحتية في الشرق الأوسط خلال عام 2025، وتكشف عن تحول "أرامكو" نحو نماذج تمويلية تعتمد على مشاركة الأصول لتعظيم العائدات.
1. قيمة الصفقة وهيكلها (11 مليار دولار)
القيمة الإجمالية: بلغت قيمة الاتفاقية 11 مليار دولار أمريكي.
الطرف المستثمر: تم توقيع الصفقة مع ائتلاف من المستثمرين الدوليين، بقيادة صناديق تديرها شركة "جلوبال إنفراستركتشر بارتنرز" (GIP)، وهي شركة عالمية رائدة في مجال الاستثمار في البنية التحتية، والتابعة لـ "بلاك روك".
هيكل الصفقة: كانت الصفقة عبارة عن اتفاقية "استئجار وإعادة تأجير" (Lease and Leaseback) تتعلق بمرافق معالجة الغاز في حقل الجافورة.
بموجب هذا الهيكل، سيقوم الائتلاف الاستثماري بشراء حقوق الاستغلال والتطوير لبعض أصول البنية التحتية الخاصة بمعالجة الغاز (مثل معمل الغاز في الجافورة ومرفق تجزئة سوائل الغاز الطبيعي "رياس").
بعد الاستئجار، يتم إعادة تأجير هذه الأصول على الفور إلى "أرامكو السعودية" لمدة طويلة، تم تحديدها بـ 20 عاماً.
ستحصل "أرامكو" على المبلغ الإجمالي للصفقة (11 مليار دولار) كـ عائدات مقدمة (Upfront Proceeds) عند إتمام الصفقة، مما يمثل ضخاً نقدياً ضخماً.
2. الكيان المشترك ومرافق الصفقة
لإتمام الصفقة، تم تأسيس شركة مشتركة تُدعى شركة الجافورة لنقل ومعالجة الغاز (GMGC).
الملكية: تمتلك "أرامكو السعودية" حصة الأغلبية في هذه الشركة بنسبة 51%، بينما يمتلك الائتلاف الاستثماري بقيادة "جي آي بي" نسبة 49% المتبقية.
آلية العائد: تحصل شركة "GMGC" على تعرفة ثابتة تدفعها "أرامكو" مقابل منحها الحق الحصري في استلام ومعالجة الغاز الخام المستخلص من الجافورة، مما يوفر للمستثمرين تدفقات نقدية مستقرة وطويلة الأجل.
الهدف الاستراتيجي: تهدف "أرامكو" من خلال هذا الهيكل إلى الاستفادة من خبرات المستثمرين الدوليين وتحرير رأسمالها، مع الاحتفاظ بالسيطرة التشغيلية والأغلبية في ملكية الكيان المشترك.
II. الأهمية الاستراتيجية لحقل الجافورة ورؤية 2030
لم تكن صفقة الـ 11 مليار دولار مجرد عملية مالية، بل هي خطوة محورية في تنفيذ إستراتيجية المملكة العربية السعودية للغاز، والتي تُعدّ عنصراً حاسماً في تحقيق أهداف "رؤية 2030".
3. مشروع الجافورة: مفتاح التنويع الاقتصادي
يُعد حقل الجافورة أكبر مشروع لتطوير الغاز غير المصاحب في المملكة، وهو حقل عملاق غير تقليدي (صخري).
حجم الاحتياطيات: يُقدر حجم احتياطياته بنحو 229 تريليون قدم مكعبة قياسية من الغاز الخام.
أهمية الغاز غير المصاحب: على عكس الغاز المصاحب الذي يُستخرج مع النفط، يمكن إنتاج غاز الجافورة بشكل مستقل، مما يتيح للمملكة زيادة إنتاج الغاز دون الحاجة لزيادة إنتاج النفط (الذي يخضع لحصص "أوبك+").
أهداف "أرامكو" للغاز: يشكل الجافورة ركيزة أساسية في خطة "أرامكو" الطموحة لزيادة الطاقة الإنتاجية للغاز بنسبة 60% بين عامي 2021 و2030.
4. دعم التحول الاقتصادي والطاقة النظيفة
يهدف تطوير غاز الجافورة إلى تحقيق أهداف متعددة ضمن "رؤية 2030":
الاستغناء عن حرق النفط: سيحل الغاز محل النفط الخام والسوائل النفطية كوقود لتوليد الطاقة الكهربائية محلياً. هذا الإجراء يحافظ على النفط للتصدير (بأسعار أعلى) ويدعم جهود المملكة لتقليل الانبعاثات الكربونية في قطاع الطاقة المحلي.
دعم القطاع البتروكيماوي: سيتم استخدام سوائل الغاز الطبيعي (NGLs) والغاز المستخلص من الجافورة كمواد خام (Feedstock) لتغذية القطاع البتروكيماوي المتنامي في المملكة، مما يخلق صناعات تحويلية ذات قيمة مضافة أعلى.
تغذية قطاعات المستقبل: صرح الرئيس التنفيذي لأرامكو، أمين الناصر، بأن الغاز سيُستخدم لتوفير الطاقة اللازمة لقطاعات النمو الجديدة، مثل مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي في المملكة، مما يربط إستراتيجية الطاقة مباشرة بالتكنولوجيا المستقبلية.
III. السياق الأوسع: إستراتيجية أرامكو للاستحواذ والتمويل
لا تُعدّ صفقة الـ 11 مليار دولار حالة فريدة، بل هي جزء من نمط استراتيجي أوسع تتبعه "أرامكو" لتعزيز مكانتها العالمية وتنويع أصولها.
5. نجاح نموذج تمويل الأصول (Asset Monetization)
اعتمدت "أرامكو" بنجاح نموذج تمويل الأصول الكبرى من خلال بيع حصص أقلية في أصول البنية التحتية، مما يوفر سيولة ضخمة دون خسارة السيطرة التشغيلية.
صفقة أنابيب النفط (2021): باعت "أرامكو" حصة أقلية (49%) في شركة تابعة لأنابيب النفط مقابل 12.4 مليار دولار أمريكي.
صفقة أنابيب الغاز (2022): باعت حصة أقلية (49%) في شركة تابعة لأنابيب الغاز مقابل 15.5 مليار دولار أمريكي.
صفقة الجافورة (2025): صفقة استئجار وإعادة تأجير بقيمة 11 مليار دولار لمرافق المعالجة.
هذه الصفقات الثلاث الكبرى وحدها جلبت للشركة ما يزيد عن 38.9 مليار دولار أمريكي، مما يؤكد جاذبية أصول البنية التحتية السعودية للمستثمرين العالميين في البنية التحتية طويلة الأجل (مثل "بلاك روك" وصناديق المعاشات).
6. تعزيز قطاع التكرير والبتروكيماويات
تُركز إستراتيجية "أرامكو" بقوة على توسيع أعمالها في قطاع التكرير والبتروكيماويات (Downstream) لتقليل الاعتماد على مبيعات النفط الخام البحتة.
استكمال صفقة "بترورابغ": في أواخر عام 2025، استكملت "أرامكو" صفقة الاستحواذ على حصة إضافية في شركة رابغ للتكرير والبتروكيماويات (بترورابغ).
قيمة الاستحواذ المباشر: بلغت قيمة هذا الاستحواذ على حصة 22.5% من شركة سوميتومو كيميكال اليابانية نحو 702 مليون دولار أمريكي (ما يعادل 2.63 مليار ريال سعودي).
الأثر الاستراتيجي: رفعت هذه الصفقة حصة "أرامكو" في "بترورابغ" إلى حوالي 60%، مما جعلها المساهم الأكبر ومنحها السيطرة الإدارية لتمكين تحويل الشركة، ودعم هدف "أرامكو" بتحويل 4 ملايين برميل يومياً من النفط إلى كيماويات بحلول عام 2030.
7. التوسع العالمي والتحول في قطاع النقل
تتجه "أرامكو" نحو التوسع الاستراتيجي في الأسواق الآسيوية والأوروبية، مع التركيز على التقنيات الجديدة.
الاستثمار في هنغلي الصينية: في عام 2024، أجرت "أرامكو" محادثات لشراء حصة تبلغ 10% في شركة "هنغلي" الصينية للبتروكيماويات، مما يضمن سوقاً مستقرة طويلة الأجل لنفطها الخام ومنتجاتها المكررة في آسيا.
الاستحواذ في "هورس باورترين": أكملت "أرامكو" في ديسمبر 2024 استحواذها على حصة 10% في شركة "هورس باورترين" المحدودة التابعة لمجموعة رينو الفرنسية، بقيمة إجمالية بلغت 7.4 مليار يورو (في سياق شراكة تقنية واستثمارية). يهدف هذا الاستثمار إلى تطوير تقنيات محركات الاحتراق الداخلي منخفضة الكربون والوقود البديل، مما يضمن لأرامكو موطئ قدم في مستقبل قطاع النقل.
IV. الأثر المالي والاقتصادي لصفقات "أرامكو" الضخمة
تؤثر صفقات "أرامكو" الضخمة بشكل مباشر على ميزانية الشركة وعلى الاقتصاد السعودي ككل.
8. تعزيز المركز المالي والسيولة
يُعدّ التدفق النقدي البالغ 11 مليار دولار من صفقة الجافورة ذا أهمية قصوى:
دعم توزيعات الأرباح: توفر هذه السيولة دعمًا إضافيًا لـ "أرامكو" لمواصلة دفع توزيعات الأرباح الأساسية والخاصة للمساهمين (أبرزهم الحكومة وصندوق الاستثمارات العامة)، مما يعزز جاذبيتها للمستثمرين ويحسن مركزها المالي.
تمويل الاستثمار الرأسمالي: يُستخدم هذا المبلغ لتمويل خطط الإنفاق الرأسمالي الضخمة لـ "أرامكو" (التي تتجاوز عشرات المليارات سنوياً) في مشاريع النفط والغاز الجديدة، وفي مشاريع التكرير والكيميائيات.
9. تعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI)
تُرسل هذه الصفقات إشارات إيجابية قوية للمجتمع المالي العالمي:
الثقة في البنية التحتية: مشاركة عمالقة مثل "جلوبال إنفراستركتشر بارتنرز" تعكس ثقة المؤسسات المالية الغربية في استقرار وقوة البنية التحتية السعودية للطاقة، وسلامة إطارها التنظيمي.
جاذبية الرؤية: يُشجع ضخ استثمارات أجنبية مباشرة بهذا الحجم المستثمرين الآخرين على الانخراط في مشاريع "رؤية 2030"، مما يدعم تنويع مصادر التمويل للمملكة.
V. التحليل الختامي: أرامكو بين النفط والغاز والكيميائيات
صفقة الـ 11 مليار دولار في حقل الجافورة، إلى جانب الاستحواذات الأصغر في "بترورابغ" والاستثمارات التقنية مثل "هورس باورترين"، ترسم بوضوح استراتيجية "أرامكو" لما بعد النفط الخام.
تتحرك "أرامكو" بخطوات مدروسة لتصبح شركة طاقة متكاملة، لا تقتصر على إنتاج النفط فحسب، بل تمتد إلى معالجة الغاز (للاستخدام المحلي والتصدير) والكيماويات ذات القيمة العالية، وتقنيات النقل المستقبلية. يُظهر هيكل صفقة الجافورة أن الشركة تستخدم أصولها الراسخة كأداة مالية لجمع السيولة اللازمة لتمويل تحولها الطموح، مع الالتزام بتعظيم قيمة هذه الأصول على المدى الطويل.
إن قيمة الصفقة الجديدة، التي بلغت 11 مليار دولار أمريكي، هي دليل آخر على قدرة "أرامكو" على جذب رؤوس الأموال العالمية الضخمة، ليس فقط لحجمها الهائل، ولكن لرؤيتها الإستراتيجية التي تتماشى مع الاتجاهات العالمية في مجال الطاقة والاستدامة الاقتصادية.



