recent
أخبار ساخنة

التحول السياسي في أمريكا: هل ينجح ترامب في كسر هيمنة الديمقراطيين؟

التحول السياسي في أمريكا: هل ينجح ترامب في كسر هيمنة الديمقراطيين؟

تعدّ السياسة الأمريكية مسرحاً دائماً للتغير، لكن السنوات الأخيرة شهدت تحولاً زلزالياً قوض الافتراضات التقليدية حول الولاء الحزبي والتكتلات الانتخابية. مع تولي دونالد ترامب الرئاسة لولاية جديدة في يناير 2025، تعود التساؤلات بقوة حول قدرته على ترسيخ نموذج سياسي جديد يكسر الهيمنة المتصورة للحزب الديمقراطي على مؤسسات السلطة والمشهد الثقافي. إن تحليل ما إذا كان ترامب ينجح في هذا التحول يتطلب فحصاً معمقاً ليس فقط لنتائج الانتخابات، بل للأسس الجيوسياسية والثقافية والاقتصادية التي يعتمد عليها كلا الحزبين.

I. الإطار النظري: مفهوم الهيمنة الأمريكية

لتحديد ما إذا كان ترامب يكسر هيمنة الديمقراطيين، يجب أولاً تحديد ما تعنيه هذه "الهيمنة". لا تقتصر الهيمنة الديمقراطية على الفوز المتتالي في الانتخابات الرئاسية أو السيطرة على الكونغرس، بل تشمل ثلاثة أبعاد أساسية:

  1. الهيمنة الديموغرافية والجغرافية: سيطرة الديمقراطيين على المدن الكبرى وضواحيها الغنية، والتوافق المتزايد بين قاعدتهم وبين التغيرات الديموغرافية (الشباب، الأقليات، أصحاب الشهادات الجامعية).

  2. الهيمنة المؤسسية: السيطرة على الجامعات، ووسائل الإعلام الرئيسية (باستثناء المحافظة)، والمؤسسات الثقافية، والبيروقراطية الفيدرالية.

  3. الهيمنة التشريعية والسياساتية: القدرة على تمرير تشريعات رئيسية، وتشكيل المحكمة العليا، وتوجيه مسار السياسة الداخلية والخارجية.

لقد نجح ترامب في تحدي هذه الهيمنة، لكن نجاحه لم يكن عبر هزيمتها بالكامل، بل عبر بناء هندسة انتخابية مضادة تتيح له الفوز بالرئاسة رغم التفوق الديموغرافي للديمقراطيين.

II. الهندسة الانتخابية المضادة: ركائز النموذج الترامبي

يعتمد نجاح ترامب السياسي ليس على استمالة الناخبين التقليديين، بل على إعادة تعريف القاعدة الجمهورية وبناء تكتل جديد يكسر التقاليد الحزبية القديمة.

1. تحالف "العمال والضواحي العائمة" (The Working-Class Pivot)

التحول الأبرز في المشهد السياسي الأمريكي هو انتقال الطبقة العاملة البيضاء، خاصةً غير الحاصلة على شهادات جامعية، بعيداً عن الحزب الديمقراطي باتجاه ترامب.

  • التركيز على الاقتصاد الثقافي: لا يقدم ترامب نفسه كسياسي محافظ تقليدي، بل كبطل لحرب ثقافية ضد "النخب الليبرالية" التي يُنظر إليها على أنها تتجاهل قيم ومصالح العمال. نجح ترامب في دمج القضايا الاقتصادية (مثل الحمائية التجارية ومناهضة العولمة) بالقضايا الثقافية (مثل الهجرة والهوية)، مما خلق ولاءً قوياً بين الناخبين.

  • الاختراق في الولايات المتأرجحة: مكن هذا التحول ترامب من تحقيق انتصارات حاسمة في الولايات الصناعية القديمة مثل بنسلفانيا، وميشيغان، وويسكونسن، وهي الولايات التي كانت تُعتبر لسنوات طويلة جزءاً من "الجدار الأزرق" الديمقراطي.

2. تسييس الهجرة وقضية الحدود

تُعدّ الهجرة هي القنبلة الموقوتة التي يستغلها ترامب ببراعة لكسر تحالف الأقليات التقليدي للديمقراطيين.

  • استقطاب الناخب اللاتيني: نجح ترامب في زيادة نسبة دعمه بين شرائح واسعة من الناخبين اللاتينيين، خاصةً في فلوريدا وتكساس، عبر التركيز على قضايا مثل الأمن الحدودي، وتجنب الخطاب الليبرالي المفرط، وجذب بعض اللاتينيين الكوبيين والفنزويليين الذين يكرهون الاشتراكية. هذا التصدع في تكتل الأقليات يمثل ضربة قاصمة للهيمنة الديمقراطية.

  • الجمهوريون القوميون: أعاد ترامب تعريف الحزب الجمهوري ليصبح حزباً قومياً وشعبوياً، بعيداً عن النيوليبرالية والليبرالية المحافظة التي سادت في حقبة بوش وريغان.

التحول السياسي في أمريكا: هل ينجح ترامب في كسر هيمنة الديمقراطيين؟


III. فشل الديمقراطيين في الصمود: أسباب تآكل الهيمنة

على الجانب الآخر، فإن نجاح ترامب لا يمكن فصله عن أخطاء الحزب الديمقراطي في الحفاظ على هيمنته المتصورة.

3. الانفصال عن الطبقة العاملة

تنامي اعتماد الحزب الديمقراطي على الناخبين المتعلمين تعليماً عالياً والناخبين الحضريين أدى إلى تضييع التواصل مع الطبقة العاملة، خاصةً في المناطق الريفية والصناعية.

  • الحرب الثقافية الداخلية: انخراط الحزب في نقاشات ثقافية معقدة حول الهوية، أدى إلى نفور العديد من الناخبين الذين يرون أن الحزب لا يهتم بقضاياهم الاقتصادية المباشرة بقدر اهتمامه بـ "الاستيقاظ السياسي" (Woke Politics).

  • إستراتيجية "الرفض": اعتمد الديمقراطيون بشكل كبير على إستراتيجية "الرفض لترامب" بدلاً من تقديم رؤية اقتصادية واجتماعية شاملة وجذابة لجميع شرائح المجتمع.

4. التحدي في الولايات الحاسمة

رغم تفوق الديمقراطيين في كاليفورنيا ونيويورك، إلا أن هذا التفوق يتركز في مناطق جغرافية ضيقة لا تمنحهم ميزة في المجمع الانتخابي. في المقابل، يسيطر ترامب على النواحي الريفية في الولايات المتأرجحة، مما يمنحه ميزة هيكلية في نظام "الفائز يأخذ الكل" (Winner-Take-All).

IV. تحديات ترامب في "الكسر النهائي" للهيمنة

رغم انتصاره، لا يزال طريق ترامب لكسر الهيمنة الديمقراطية بالكامل يواجه تحديات هيكلية كبيرة.

5. هيمنة "التضاريس المؤسسية"

يظل الحزب الديمقراطي مسيطراً على ما يمكن تسميته "التضاريس المؤسسية" (Institutional Terrain):

  • التعليم العالي: تسيطر الأيديولوجيا الليبرالية على الغالبية العظمى من الجامعات، التي تُعدّ مصدراً رئيسياً لتشكيل النخبة الجديدة للبلاد.

  • الإعلام والثقافة: لا تزال شبكات الإعلام الكبرى وشركات التكنولوجيا الكبيرة وقطاع الترفيه (هوليوود) تميل بشكل كبير نحو الديمقراطيين.

  • البيوروقراطية الفيدرالية: يواجه ترامب تحدياً في "تطهير" البيروقراطية الفيدرالية التي يُنظر إليها على أنها معقل للموالين للديمقراطيين، وهو ما يسعى ترامب لتحقيقه في ولايته الجديدة. نجاحه في هذا المسعى يمكن أن يكسر جزءاً كبيراً من الهيمنة المؤسسية.

6. تهديد الضواحي (The Suburban Squeeze)

رغم نجاح ترامب في تحويل جزء من الطبقة العاملة، إلا أنه لا يزال يعاني من نفور نسبة كبيرة من النساء المتعلمات تعليماً عالياً في الضواحي الكبرى، خاصةً في ولايات مثل جورجيا وأريزونا. هذه الفئة تشكل حجر الزاوية في أي تحالف ديمقراطي ناجح، ويمثل خسارتها بالكامل تهديداً وجودياً للحزب. ترامب ينجح في اختراقها، لكنه لا يسيطر عليها بالكامل.

7. التحديات القضائية والشرعية

يواجه ترامب تحديات قانونية وسياسية مستمرة تزيد من الاستقطاب. الاعتماد على الشخصنة والاستقطاب الحاد كسلاح رئيسي يمكن أن يضمن الولاء الصلب لقاعدته، لكنه في الوقت نفسه يُنفّر الناخبين المعتدلين الذين يخشون من تآكل الأعراف الديمقراطية.

V. التحليل الختامي: مستقبل التحول

هل ينجح ترامب في كسر هيمنة الديمقراطيين؟ الجواب أكثر تعقيداً من مجرد "نعم" أو "لا".

إن ترامب لم يكسر الهيمنة الديمقراطية على المؤسسات الثقافية والديموغرافية؛ فالحزب الديمقراطي يظل يستفيد من التغيرات الديموغرافية طويلة الأجل ومن سيطرته على مراكز التعليم والإعلام. لكن ترامب نجح بشكل حاسم في كسر الهيمنة الانتخابية للديمقراطيين على مستوى الرئاسة، وذلك عبر:

  1. إعادة هندسة الخريطة الانتخابية: خلق تحالف جديد من الطبقة العاملة والناخبين القوميين الذين يتجاوزون العرق والدين والطبقة.

  2. تجميد التحول الديموغرافي: أبطأ ترامب من فعالية التحول الديموغرافي لصالح الديمقراطيين عبر اختراق تكتل الناخبين اللاتينيين.

التحول السياسي في أمريكا: هل ينجح ترامب في كسر هيمنة الديمقراطيين؟

في النهاية، ما نشهده هو تحول من نظام هيمنة ديمقراطية متصورة إلى حالة من الاستقطاب المزدوج والمستقر (Stable Dualism). لا يستطيع أي من الحزبين ادعاء الهيمنة الشاملة. يتمتع الديمقراطيون بهيمنة ثقافية ومؤسسية، بينما يتمتع الجمهوريون، تحت قيادة ترامب، بهيمنة هيكلية على المجمع الانتخابي وسيطرة متزايدة على المحكمة العليا والمجالس التشريعية للولايات.

لذا، فإن نجاح ترامب هو في إنهاء فترة "ما بعد الحرب الباردة" من الإجماع الليبرالي ودفن توقعات الديمقراطيين بتحقيق "أغلبية دائمة" بسبب التغيرات الديموغرافية. لقد جعل ترامب من الحزب الجمهوري حزباً ذا قاعدة شعبية متماسكة وفعالة في الانتخابات الرئاسية، لكن التحدي الأكبر يكمن في ما إذا كان هذا التحول سيستمر بعد ترامب نفسه، وإذا كان قادراً على ترجمة قوته الشعبية إلى سيطرة مستدامة على المؤسسات الفيدرالية. إن الصراع بين هيمنة ترامب الشعبوية وهيمنة الديمقراطيين الثقافية هو ما سيحدد مسار السياسة الأمريكية للعقود القادمة.

google-playkhamsatmostaqltradent