تُعد الحرب الروسية الأوكرانية، التي دخلت عامها الرابع، واحدة من أطول وأعنف الصراعات الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية. ورغم التركيز الإعلامي والدولي على جبهات الجنوب وشمال كييف في بدايات الغزو، إلا أن الجبهة الشرقية ظلت ولا تزال هي القلب النابض للصراع، حيث تتكثف أشرس المعارك وتُحسم مصائر الاستراتيجيات العسكرية. يشهد المشهد الحالي حالة من الجمود التكتيكي المعقد، تتخللها محاولات روسية مستمرة لتحقيق مكاسب إقليمية بطيئة، بالتزامن مع ارتفاع وتيرة التحذيرات والضغوط الأمريكية على موسكو، مما يُنذر بمرحلة جديدة من التصعيد الجيوسياسي.
I. الجمود التكتيكي على الجبهة الشرقية (2024-2025)
تتركز المعارك الرئيسية حالياً في منطقة دونباس (لوغانسك ودونيتسك) وفي مناطق محيطة بمدينة خاركيف، حيث اعتمدت القوات الروسية إستراتيجية "الضغط المستمر" (Constant Pressure) لتحقيق مكاسب تدريجية بدلاً من الاختراقات الكبيرة.
1. محور دونيتسك: المعركة من أجل المكاسب الكبرى
تُعدّ مقاطعة دونيتسك، التي تسعى روسيا للسيطرة الكاملة عليها، هي بؤرة القتال الرئيسية. بعد السيطرة على مدينتي ماريوبول وباخموت (في المراحل السابقة)، تحول التركيز الروسي إلى عدة نقاط استراتيجية:
أفدييفكا وما بعدها: شكلت خسارة أوكرانيا لمدينة أفدييفكا في أوائل عام 2024 نقطة تحول تكتيكية مهمة، إذ كانت تُعدّ "بوابة دونيتسك". مهد سقوطها الطريق للقوات الروسية للتقدم غرباً باتجاه بلدات مثل تشاسيف يار (Chasiv Yar) وبوكروفسك (Pokrovsk).
الأهمية الاستراتيجية لتشاسيف يار: تُعتبر هذه البلدة هي المرتفع الحاكم للمنطقة، وإذا سقطت، فستتمكن روسيا من الوصول إلى مدينتي كراماتورسك وسلوفيانسك، وهما آخر المعاقل الصناعية الكبرى المتبقية لأوكرانيا في دونيتسك. لذلك، فإن القتال هناك هو معركة "المدفعية والخنادق" بامتياز، حيث تعتمد روسيا على التفوق الناري لتدمير التحصينات الأوكرانية.
استنزاف الموارد الأوكرانية: الإستراتيجية الروسية في دونيتسك تقوم على استنزاف القوى البشرية والذخائر الأوكرانية، مما يضطر كييف إلى سحب وحدات من جبهات أخرى لدعم الخطوط الأمامية المهددة بالانهيار.
2. محور خاركيف: الضغط الشمالي والتحذير الروسي
في منتصف عام 2024، شنت القوات الروسية هجوماً غير متوقع على مقاطعة خاركيف الشمالية بهدف إنشاء منطقة عازلة (Buffer Zone) ومنع القصف الأوكراني على مناطق روسيا الحدودية.
التقدم حول فولشانسك: تركز الهجوم على السيطرة على بلدات حدودية مثل فولشانسك، مما أدى إلى تقدم روسي سريع في البداية.
الأهداف الثانوية: هذا الهجوم أجبر أوكرانيا على تشتيت مواردها للدفاع عن ثاني أكبر مدينة في البلاد (خاركيف)، مما خفف الضغط على جبهة دونباس ومنح روسيا زمام المبادرة التكتيكية. رغم أن الهجوم لم يهدد المدينة نفسها بشكل مباشر، إلا أنه حقق هدفاً استراتيجياً في إرباك القيادة العسكرية الأوكرانية.
3. الجمود المادي والتقني
الجمود في الشرق هو نتاج التوازن المادي بين الدفاعات المتحصنة بعمق (التحصينات الأوكرانية) والتفوق الناري الروسي (المدفعية الثقيلة والطائرات الشراعية المزودة بقنابل موجهة).
استخدام القنابل الموجهة (FABs): زادت روسيا بشكل كبير من استخدام القنابل الجوية الموجهة (FABs) التي تدمر التحصينات الدفاعية الأوكرانية، مما يقلل من حاجة الطيارين الروس للمخاطرة بالاقتراب من خطوط الدفاع.
نقص الدفاعات الجوية الأوكرانية: تسبب تأخر إمدادات الدفاعات الجوية الغربية، خاصةً منظومات باتريوت، في تفوق جوي روسي سمح لهذا القصف المدمر بالاستمرار.
II. التحذيرات الأمريكية الجديدة: خطوط حمراء وتغيير قواعد الاشتباك
في خضم هذا الجمود العسكري، ارتفعت حدة التحذيرات الأمريكية الموجهة لروسيا، والتي تعكس قلقاً متزايداً في واشنطن ليس فقط بشأن مصير الحرب، بل بشأن تداعياتها العالمية.
4. تحذيرات بشأن الأسلحة النووية والتكتيكية
على الرغم من أن التهديد النووي لم يغب أبداً عن الحرب، إلا أن التحذيرات الأمريكية الأخيرة (عام 2025 وما قبله) أصبحت أكثر وضوحاً وتفصيلاً.
ردع استخدام الأسلحة التكتيكية: أرسلت واشنطن رسائل واضحة ومباشرة إلى موسكو بخصوص الخطوط الحمراء المتعلقة باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية (وهي أسلحة مصممة للاستخدام في ساحة المعركة). يهدف هذا التحذير إلى ردع أي تفكير روسي باللجوء إلى خيار التصعيد غير التقليدي لكسر الجمود في الشرق.
الاستجابة "الكارثية": استخدم مسؤولون أمريكيون عبارة "عواقب كارثية" لوصف الرد الغربي المحتمل على أي استخدام روسي للنووي، مما يشير إلى أن الرد لن يكون محصوراً بالعقوبات الاقتصادية، بل قد يشمل تدخلاً عسكرياً تقليدياً كبيراً.
5. تحذيرات بشأن التدخل الصيني والإيراني
ركزت التحذيرات الأمريكية الجديدة أيضاً على محاولة تقويض الدعم الخارجي لروسيا:
التهديد بالعقوبات على الصين: حذرت واشنطن بكين من أن دعمها المادي لروسيا، خاصة في مجال المكونات الإلكترونية والمعدات ذات الاستخدام المزدوج، سيعرض الشركات والمؤسسات الصينية لعقوبات ثانوية قاسية.
المسيرات الإيرانية والكورية الشمالية: التحذيرات الأمريكية المستمرة بشأن التعاون بين روسيا وإيران وكوريا الشمالية (خاصة في توريد المسيرات والذخائر المدفعية) تهدف إلى إضفاء شرعية دولية على فرض عقوبات إضافية وتعميق العزلة الاقتصادية لروسيا.
6. التحول في السماح بالضربات على الأراضي الروسية
أهم تغيير في قواعد الاشتباك، والذي أتى نتيجة مباشرة للتحذيرات الأمريكية والضغط الأوكراني، هو السماح باستخدام الأسلحة الغربية لمهاجمة أهداف عسكرية داخل الأراضي الروسية، بشرط أن تكون هذه الأهداف مرتبطة بشكل مباشر بالهجمات على خاركيف والجبهة الشرقية.
الهدف التكتيكي: كان الهدف هو تحييد مراكز القيادة والمدفعية التي تطلق النار من مناطق آمنة داخل روسيا بالقرب من الحدود.
التأثير السياسي: يمثل هذا القرار رفعاً فعلياً لـ "الخطوط الحمراء" الغربية، وخطوة تصعيدية تهدف إلى دعم الدفاعات الأوكرانية التي كانت تعاني من قيود صارمة على كيفية استخدامها للمساعدات العسكرية.
III. التداعيات على مسار الحرب والجبهة الشرقية
هذه المستجدات، سواء على مستوى المعارك أو التحذيرات الدولية، لها تداعيات مباشرة على مستقبل الصراع.
7. التوقعات على الجبهة الشرقية: "الصراع الطويل"
من المرجح أن يستمر الجمود التكتيكي في الشرق، مع تركيز روسيا على الضغط المستمر لتحقيق أهدافها الإقليمية المحدودة في دونيتسك، بينما ستستغل أوكرانيا وصول المساعدات الأمريكية الجديدة (خاصة الذخائر بعيدة المدى وأنظمة الدفاع الجوي) لتحسين خطوطها الدفاعية:
تزايد فعالية الدفاعات الأوكرانية: سيمكن السماح بالضربات داخل روسيا أوكرانيا من تقليل التفوق الناري الروسي، مما يجعل أي تقدم روسي جديد مكلفاً للغاية.
نهاية حرب المناورات؟ يرى بعض المحللين أن الحرب تحولت بشكل شبه كامل إلى حرب استنزاف طويلة الأمد على غرار الحرب العالمية الأولى، حيث تُقاس المكاسب بمئات الأمتار، ويكون العامل الحاسم هو قدرة كل طرف على تعويض خسائره البشرية والمادية.
8. تأثير المساعدات الغربية: حافة الهاوية
جاءت حزمة المساعدات العسكرية الأمريكية الطويلة الأمد (2024-2025) بمثابة طوق النجاة لكييف، لكنها لا تزال غير كافية لتحقيق اختراق هجومي كبير على الجبهة الشرقية، بل هي مخصصة بشكل أساسي لتثبيت الجبهة ومنع الانهيار.
الأولوية للدفاع الجوي: الأولوية القصوى لأوكرانيا الآن هي الحصول على منظومات باتريوت وأنظمة دفاع جوي أخرى لمواجهة القنابل الروسية الموجهة والطائرات المسيّرة التي تُدمر تحصيناتها في الشرق.
تأثير الانتخابات الأمريكية: تظل المساعدات الغربية مرهونة بالديناميكيات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة وأوروبا، مما يضيف عنصراً من عدم اليقين يُقلق كييف.
9. التداعيات الجيوسياسية للتحذيرات الأمريكية
تُظهر التحذيرات الأمريكية الأخيرة عدة حقائق:
التزام الردع: واشنطن لا تزال ملتزمة بمبدأ ردع أي تصعيد نووي، وتنظر إلى الحرب كصراع يجب أن يبقى ضمن حدود الأسلحة التقليدية.
تغيير الإستراتيجية تجاه روسيا: التحذيرات الأخيرة، إلى جانب السماح بالضربات على روسيا، تعكس تحولاً من إستراتيجية "تجنب التصعيد بأي ثمن" إلى إستراتيجية "احتواء التصعيد ورفع تكلفته" على موسكو.
IV. تحديات أوكرانيا الداخلية (العامل البشري)
بصرف النظر عن المساعدات الغربية والتحذيرات الأمريكية، تظل التحديات الداخلية الأوكرانية عاملاً حاسماً في قدرتها على الصمود في الشرق.
التعبئة والتجنيد: تُعدّ مسألة التعبئة وتناقص القوى البشرية في ظل الخسائر الكبيرة على الجبهة الشرقية هي التحدي الأكبر. أقرت أوكرانيا قوانين جديدة لتوسيع قاعدة التجنيد، لكن تنفيذها يواجه تحديات اجتماعية ولوجستية كبيرة.
الاحتياجات الاقتصادية: الحرب الاستنزافية في الشرق تتطلب إنفاقاً اقتصادياً هائلاً، وتعتمد كييف بشكل كبير على المساعدات الاقتصادية الغربية للحفاظ على استقرارها المالي والاجتماعي.
الخاتمة
تظل الجبهة الشرقية بين روسيا وأوكرانيا هي جبهة "النار الهادئة" التي تُستنزف فيها الموارد بلا هوادة. يسعى ترامب إلى كسر الهيمنة الديمقراطية. بينما يواصل ترامب سعيه لكسر الهيمنة الديمقراطية. نجاح روسيا في تحقيق مكاسب تكتيكية بطيئة في دونيتسك، مدعومة بالتفوق الناري ونقص الدفاعات الجوية الأوكرانية، يقابله تغيير جذري في السياسة الأمريكية تمثل في السماح بالضربات على الأراضي الروسية.
تُرسل التحذيرات الأمريكية الجديدة رسالة ردع واضحة لموسكو بشأن أي تصعيد غير تقليدي، وفي الوقت نفسه تهدف إلى تعزيز القدرة الدفاعية لأوكرانيا لمنع الانهيار. من المرجح أن يتسم العام القادم بالاستمرار في حرب الاستنزاف الطويلة في الشرق، حيث يتوقف مصير الصراع على قدرة أوكرانيا على تعويض خسائرها بالدعم الغربي، وقدرة روسيا على الحفاظ على زخمها الهجومي تحت وطأة العقوبات والضغوط الدولية المتزايدة.



